إنه إمام الحفّاظ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري صالح الصحيح رحمه الله تعالى الذي لم تسمع الدنيا بحافظ مثله ... لقد كانت حياته عجباً ، ووفاته أعجب ..
ذكر الحافظ ابن حجر في الهدي أن الإمام البخاري رحمه لما رجع في آخر حياته إلى بخاري نُصبت له الخيام على فرسخ من البلد ، واستقبله أهلها استقبالاً حافلاً ، ونثروا عليه الدراهم والدنانير ، فمكث مدة مكرماً معززاً ، ثم طلب منه والي بخاري خالد بن أحمد الذهلي الحضور إلى داره ليسمع منه ويقرأ كتاب الجامع والتاريخ على أولاده ، فقال الإمام رحمه الله لمبعوث الوالي : " قل له إني لا أذل العلم ، ولا أحمله إلى أبواب السلاطين ، فإن كانت له حاجة في شيء منه فليحضرني في مسجدي أو في داري ، فإن لم يعجبه هذا فهو سلطان فيمنعني من المجلس ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة أني لا أكتم العلم "
هكذا أعلنها صريحة ، فكانت سبباً للوحشة بينهما ، وأراد الوالي أن ينتقم منه ، فاستعان بحريث بن أبي الورقاء وغيره من أهل بخارى حتى تكلموا في مذهب البخاري وطعنوا فيه ، فنفاه عن البلد ، فما كان منه رحمه الله إلا أن دعا الله عليهم فقال : " اللهم أرهم ما قصدوني به في أنفسهم وأولادهم وأهاليهم " ، فاستجاب الله دعاءه ، فأما خالد ( والي بخارى ) فلم يأت عليه أقل من شهر حتى ورد أمر الخليفة بأن يُنادى عليه فنودي عيه وهو على أتان( ) ثم صار عاقبة أمره إلى الذل والحبس ، وأما حريث بن أب الورقاء فإنه ابتلي في أهله فرأى فيهم ما يجل عن الوصف ، وأما فلان فإنه ابتلي في أولاده فأراه الله فيهم البلايا ..
وأما الإمام رحمه الله فقد خرج إلى قرية من قرى سمرقند تدعى " خرتنك " وكان له بها أقرباء فنز عندهم ، فسُمع ليلة من الليالي وقد فرغ من صلاة الليل يقول في دعائه : " اللهم ضاقت عليّ الأرض بما رحبت فاقبضني إليك " ، فما تم الشهر حتى قبضه الله .. وقال محمد الوراق .. سمعت غالب بن جبريل وهو الذي نزل عليه البخاري يخرتنك يقول : إنه أقام أياماً فمرض حتى وُجه إليه رسولٌ من أهل سمرقند يلتمسون منه الخروج إليهم فأجاب ، وتهيأ للركوب ولبس خفيه وتعمم ، فلما مشى قدر عشرين خطوة أو نحوها إلى الدابة ليركبها وأنا آخذ بعضده ، قال أرسلوني فأرسلناه ، فدعا بدعوات ثم اضطجع ففاضت روحه ، ثم سأل منه عرق كثير ، فما أدرجناه في أكفانه وصلينا عليه ووضعناه في حفرته ؛ فاح من تراب قبره رائحة طيبة كالمسك ن ودامت أياماً .
قال عبد الواحد بن آدم الطواويسي : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ومعه جماعة من أصحابه وهو واقف في موضع ، فسلّمت عليه ، فرد عليّ السلام ، فقلت : ما وقوفك هنا يا رسول الله ؟ ، قال : انتظر محمد بن إسماعيل ( يعني البخاري ) .. قال فلما كان بعد أيام بلغني موته ، فنظرت فإذا هو قد مات في الساعة التي رأيت فيها النبي صلى الله عليه وسلم .
قال مهيب بن سليم : كانت وفاته ليلة السبت ليلة عيد الفطر سنة ست وخمسين ومائتين ...
رحم اللهُ الإمام البخاري وتغمده بواسع فضله ومغفرته